السلطان محمد الفاتح ولماذا قرر فتح صربيا وبلغراد
السلطان محمد الفاتح فتحٌ عظيمٌ آخر يضاف إلى سجل الانتصارات التي حققها في أوروبا.
ذلك الفاتح العظيم الذي كان في 23 من عمره فقط عندما حقق ما عجز عنه المسلمون طوال ثمانية قرون.
الأول هو فتح القسطنطينية ليصير اسمه مبعثًا للرعب في أوروبا كلها.
فهبوا للتصدي له قبل أن يصل المد العثماني لوجه الفاتح إليهم.
لماذا قرر السلطان محمد الفاتح فتح صربيا؟
ها هو ذا الفاتح يعود منتصراً إلى أدرنة، عاصمة الدولة العثمانية، بعد فتح القسطنطينية، عاصمة الدولة البيزنطية، عام 857 للهجرة، 1453 للميلاد.
وفي الوقت الذي سادت فيه الفرحة جميع أرجاء العالم الإسلامي، دب الرعب في كل أنحاء أوروبا وتخوف الأوروبيون من أن يصل إليهم المد العثماني.
فأخذ البابا في روما يدعو إلى حملة صليبية على العثمانيين.
فبادر السلطان محمد الفاتح إلى غزو صربيا حتى لا تتخذها القوات المتحالفة مركزًا أساسيًا للهجوم على أراضي الدولة العثمانية في البلقان.
قبل أن نحدثكم عن فتح صربيا، يجدر بنا أن نتوقف قليلاً عند علاقة الدولة العثمانية بالبلقان.
فبحسب ما ذكر الدكتور محمد سالم الرشيدي في كتابه "السلطان محمد الفاتح"، فقد كانت للعثمانيين سيادة على كثير من أجزاء البلقان، لكنها كانت سيادة متزعزعة تقوى أحيانًا وتضعف أحيانًا أخرى.
وقد عمل الفاتح قبل فتحه للقسطنطينية على توثيق علاقاته مع بعض ملوك دول أوروبا، وبالأخص دول البلقان المحيطة بالقسطنطينية، التي من بينها صربيا والبوسنة والهرسك.
وبعد فتح القسطنطينية، أصبح الطريق مفتوحًا أمامه لفتح البلقان وضمها إلى الدولة العثمانية.
وهو ما كان يخطط له الفاتح، إذ بدأ يعد العدة لاستكمال فتوحاته في بلاد البلقان حيث كان يخشى أن تكون مصدر تهديد له.
فكان أول هدف له هو فتح صربيا.
في ذلك الوقت، كان أمير صربيا هو جورج برانكوفيتش، وكانت بعض الأجزاء من صربيا تقع تحت السيطرة العثمانية، وبعض الأجزاء الأخرى تقع تحت السيطرة المجرية.
ولما كانت صربيا تقع بين الدولة العثمانية والدولة المجرية، فإن برانكوفيتش كان يميل حسب مصلحته لإحدى الدولتين في مواجهة الأخرى.
فإذا جاءه الخطر من قبل العثمانيين، لجئ إلى المجر، وإذا جاءه الخطر من جانب المجر، احتمى بالعثمانيين.
ورغم أنه كان يدفع الجزية للعثمانيين، إلا أن ولاءه لم يكن لهم بأي حال من الأحوال.
بل كان يتحين الفرصة ليخرج من تحت سيطرتهم. جاءت الفرصة لبرانكوفيتش ليقاتل العثمانيين، إذ قرر الاشتراك في الحلف الأوروبي الذي دعا إليه البابا لقتال العثمانيين.
ولم يخفى ذلك الأمر على الفاتح الذي كان يبث العيون في كل مكان.
لذا فقد قرر المبادرة بغزو صربيا.
فتح صربيا
علم برانكوفيتش بزحف العثمانيين نحوه، فهرب إلى المجر بعد أن طلب من رعيته أن يلجؤوا إلى الأماكن الحصينة ووعدهم بأنه سيأتيهم بالمدد والقوات من المجر.
وصل الفاتح إلى مدينة صوفيا، فترك بها معظم جيشه ليحمي ظهره، وسار ببقية الجيش.
ثم قسمه إلى كتيبتين. اتجهت إحداهما إلى أوستراوز وسيطرت عليها، أما الكتيبة الثانية بقيادة الفاتح، فقد اتجهت إلى سمندرة.
لكن امتنعت عليه هذه المدينة.
ثم أقبل الشتاء، فضطر الفاتح إلى العودة إلى أدرنة بعد أن ترك قائده فيروز بك مع عدد من الجنود بمدينة كورسوفاز.
لكن هذا الجيش العثماني لم يتمكن من صد الجيش الذي جاء به ملك المجر وأمير صربيا.
بل ووقع فيروز بك في الأسر.
ما إن علم الفاتح بهزيمة جيشه حتى خرج من أدرنة على الفور لمواجهة جيش المجر.
لكن ملك المجر يوحنا هونياد كان قد عاد إلى بلاده ورأى أن برانكوفيتش أضعف من أن يواجه العثمانيين.
فآثر التسليم وقبل أن يدفع جزية سنوية للدولة العثمانية.
فعاد الفاتح إلى إسطنبول ريثما تتحسن الأحوال الجوية حتى يواصل الحرب.
وجاء الربيع، فزحف الفاتح إلى صربيا وحاصر مدينة نوفوبردا.
وبعد أسبوع واحد من الحصار، استسلمت المدينة في أول يونيو عام 1455 للميلاد، 859 للهجرة.
ثم أخضع الفاتح عدة قلاع أخرى بالقرب من المدينة قبل أن يعود إلى إسطنبول.
وبفتح مدينة نوفوبردا، لم يبقى أمام الفاتح من مدن صربيا غير العاصمة بلغراد وبعض المناطق الصغيرة الأخرى.
حيث كان سقوط بلغراد يعني سقوط صربيا بأكملها.
وليس هذا فقط، فإذا ما سيطر الفاتح على بلغراد، فهذا سيفتح له الطريق إلى بلاد المجر، وستندفع الجيوش العثمانية إلى ألمانيا وما يحيط بها.
فكيف سيتصرف الأوروبيون إزاء تلك التطورات؟
محاولة السلطان محمد الفاتح لفتح بلغراد تنتهي بالفشل
لم يتوقف البابا عن دق النواقيس يوميا فيما أسماه ناقوس الأتراك.
وأخذ يدعو الأوروبيين لقتال العثمانيين.
واختار يوحنا هونياد ملك المجر ليتولى قيادة الحملة يعاونه الراهب جان أنجيلو والراهب جان كابسترانو.
والذي أخذ يجوب ألمانيا وبولندا وفرنسا وإسبانيا يلهب حماس الناس للمشاركة في تلك الحرب الصليبية، وغيرهما من رجال الدين المسيحي.
وبالفعل، فقد تكون حلف صليبي اشترك فيه ملك المجر وملك أرجونة، وعدد من أمراء إيطاليا وألمانيا وبولندا والبنادقة إلى جانب دول أخرى انضمت إلى هذا الحلف الأوروبي.
ولم ينتظر الفاتح حتى يداهمه الأوروبيين.
فسار إلى بلغراد مع 150 ألف مقاتل.
حاصر الفاتح مدينة بلغراد من ناحيتي البر والبحر بعد أن أمن جميع حدوده التي قد تطعنه من الخلف.
وخرج الفاتح على رأس جيشه البري الكبير.
وما إن وصل إلى مدينة كورسوفاز حتى أمر بنصب المدافع لدك المدينة.
وعلى الجانب الصليبي، فقد نزل هونياد بأسطوله في نهر الدانوب، وساعدته الرياح وتيار النهر على قوة الاندفاع والانقضاض على السفن العثمانية الراسية في مكانها، والتي تمزقت بفعل التصادم.
فغرق بعضها، وفشل البعض الآخر في السير، فجرفها التيار.
ولما رأى الفاتح ما أصاب أسطوله، أمر بحرق بقية السفن كي لا تقع غنيمة في يد الصليبيين.
توقف الفاتح عن محاصرة بيلغراد من ناحية النهر، وركز كل جهده في جانب البر.
واستطاع العثمانيون فتح بعض الثغرات في السور عن طريق المدافع.
وفي 21 من يوليو عام 1456 للميلاد، أمر الفاتح بالهجوم على المدينة، ما أدى إلى هروب هونياد.
غير أن الراهب كابسترانو أخذ يحمس الصليبيين في الوقت الذي كانت إمدادات الحلف الأوروبي قد وصلت، الأمر الذي أجبر العثمانيين على ترك المواقع التي سيطروا عليها.
وقرر الفاتح اعادة الهجوم بعد أيام.
أعاد الفاتح الهجوم في السادس من أغسطس.
واستطاع الكثير من العثمانيين أن ينفذوا إلى داخل المدينة. واحتدم القتال بين الطرفين لوقت طويل.
ثم جاء هونياد بالمزيد من الإمدادات التي أحاطت بالعثمانيين الذين كانوا داخل المدينة، وشددت الخناق عليهم.
إصابة محمد الفاتح في المعركة
ووسط هذا القتال الضاري، أصيب الفاتح بجرح بالغ في فخذه وهو يقاتل، فسقط مغشيا عليه. فتحمس الصليبيون واندفعوا نحوه.
إلا أن العثمانيين دافعوا عن سلطانهم بكل قوة وشتتوا شمل الصليبيين. ثم حملوا الفاتح إلى معسكره.
وعندما أفاق السلطان انتابه غضب شديد بسبب الاضطراب الكبير الذي أصاب جيشه. وأغار الصليبيون على العثمانيين مجدداً.
فقرر الفاتح أن يعود بما تبقى من جيشه إلى ادرنة، وهو يقول:
إن بلغراد ستسقط في أيدينا عاجلا أو آجلا، وإذا لم أستولي عليها أنا، فإن أبنائي الشجعان سيستولون عليها.
وكان الفاتح محقاً. فقد جاء حفيده سليمان القانوني ليحقق حلم جده ويفتح مدينة بلغراد عام 1521 للميلاد.
بالرغم من انتصار الصليبيين في بلغراد، فقد ظل جزء كبير من صربيا تحت السيطرة العثمانية.
وبقي جزء آخر لجورج برانكوفيتش الذي أقام في سمندرة.
ثم جاء الفاتح إلى سمندرة بعد سنوات، حيث خضعت باقي القلاع للعثمانيين ما عدا بلغراد.
وأصبحت صربيا منذ ذلك الحين ولاية عثمانية، وذلك في عام 1459 للميلاد، 863 للهجرة.
توفرون معلومات قيمة ومفيدة، أشكركم على ذلك.