معركة نافارين وتأثيرها التاريخي على الدولة العثمانية
معركة نافارين، المعركة التي غيرت تاريخ الدولة العثمانية، وقعت بعد أن نقض الأوروبيون عهدهم، مستخدمين المكر والخديعة لهزيمة الدولة العثمانية. وكانت تلك الهزيمة بداية الانهيار البحري للإمبراطورية العثمانية، ممهدة الطريق أمام سقوط الجزائر تحت الاحتلال الفرنسي. وفي هذه الفترة، كانت نقطة تحول هامة في طريق استقلال اليونان عن الحكم العثماني.
معركة نافارين
كيف استخدم الأوروبيون الثورة اليونانية لضرب الدولة العثمانية؟
لم تعد الدولة العثمانية كما كانت من قبل، حيث بدأت عوامل الضعف تتسلل إليها وتنخر في إمبراطوريتها الشاسعة. لتستغل الدول الأوروبية وروسيا تلك الفرصة، وتبدأ في تصفية حساباتها والانتقام من الدولة العثمانية بعد أن أذاقتهم تلك الأخيرة الهزائم تلو الهزائم خلال القرون الثلاثة التي خلت.
جاءت الفرصة لضرب الدولة العثمانية بواسطة الثورة اليونانية. فقد كانت اليونان جزءًا من الخلافة العثمانية، وقد بدأت بذور الثورة فيها بواسطة نشاطات أخوية الصداقة، وهي منظمة وطنية سرية تأسست في أوديسا عام ١٨١٤ للميلاد.
ولم تكن مهمتهم صعبة، ففي تلك الفترة كانت رغبة الاستقلال منتشرة بين اليونانيين. بعد أن تم شحن مشاعرهم الوطنية مدة من الزمن بسبب جهود الكنيسة اليونانية الأرثودوكسية، التي أخذت تعمل على تعزيز الروح القومية اليونانية في نفوس اليونانيين.
وفي عام ١٨٢١ للميلاد، اندلعت الثورة في شبه جزيرة المورة في جنوب اليونان، تطالب باستقلال اليونان عن الدولة العثمانية. ومنذ ذلك الحين، بدأت ما تعرف تاريخياً بحرب الاستقلال اليونانية.
أخذت حدة المعارك تتصاعد شيئاً فشيئاً، متسببة بمجازر بين الطرفين. في جزيرة خيوس، قتل العثمانيون ٢٥ ألف يوناني، في حين قتل اليونانيون ١٥ ألفًا من ٤٠ ألف تركي المقيمين في شبه جزيرة بيلوبونيز. وسرعان ما تدخل إبراهيم باشا لإخماد الثورة.
بالطبع، لم تكن روسيا لتفوّت تلك الفرصة من أجل النيل من الدولة العثمانية. حيث قامت بدعم اليونانيين خلال تلك الحرب بالأموال والسلاح، تحت غطاء حماية الأرثودكس في العالم.
فقد رأى ألكسندر الأول قيصر روسيا، أن مساندة اليونانيين ستخدم المصالح الروسية. حيث ستظهر الروس حماة للمذهب الأرثودوكسي في العالم، وهو ما سيؤدي إلى تأليب كثير من العناصر الأرثودوكسية داخل الدولة العثمانية، مما يجعلها تتراجع عن مواجهة روسيا في أي حرب مقبلة.
ثم دخلت بريطانيا وفرنسا على الخط، عندما عقدت كل من روسيا وبرطانيا وفرنسا مؤتمرًا بالعاصمة البريطانية لندن في ٦ من يوليو عام ١٨٢٧. حيث تم الاتفاق فيه على دعم مقترح الحكم الذاتي لليونان في إطار الإمبراطورية العثمانية، وفرض الثلاثي نفسه ضامنًا لذلك.
وفي الوقت الذي رحب فيه اليونانيون بهذا المقترح، فإن الدولة العثمانية رفضته. لكن الدول المعادية كانت مصرة على تنفيذ مخططها، ليس باستقلال اليونان فحسب، بل استهداف مصر وجيشها أيضًا.
الأوروبيون يسعون إلى استهداف مصر، بضرب الثورة اليونانية
دعونا نرجع إلى الوراء قليلًا لنتعرف على الظروف التي قادت مصر إلى الإشراك في تلك الأحداث الجارية في اليونان. فقد كانت مصر أقوى ولايات الدولة العثمانية. فقد بنى محمد علي باشا سلطة قوية فيها، تنافس الدولة العثمانية نفسها، محققًا طفرةً هائلة في أكثر من مجال.
وعلى رأس هذه المجالات بناء جيش قوي، كان على رأسه قائد فذ، هو إبراهيم باشا ابن محمد علي. الذي قاد الجيش من نصر إلى نصر، حتى إن إبراهيم باشا كان واقفا بجواده في إحدى فتوحاته على مشارف الإمبراطورية العثمانية التي تتبعها مصر.
بالطبع، كان جيش محمد علي مبعث قلق للأوروبيين، فسعوا إلى استهدافه. فدفعت الدول الأوروبية السلطان العثماني محمود الثاني إلى الاستعانة بجيش محمد علي لإخماد التمرد في اليونان. وشجعت الدول الأوروبية محمد علي على قَبُول تلك المهمة.
حيث أوهمته بأنه سيكون أكبر زعيم في المنطقة، ويمكن أن يؤدي به الأمر ليكون خليفة المسلمين بعد أن يضعف سلطان الخلافة. فوافق محمد علي على عرض السلطان محمود بشرط أن يحصل على ولاية كل من كريت واليونان.
ليأمر بعدها ابنه إبراهيم باشا بتولي مسألة التمرد في اليونان. فتحركت جيوش مصر بقيادة إبراهيم باشا ومستشاره سليمان باشا الفرنساوي من الإسكندرية عام ١٨٢٣ للميلاد باتجاه كريت وشبه جزيرة المورة، مركز التمرد اليوناني. وبالفعل نجح إبراهيم باشا و أسطوله في هزيمة اليونانيين عدة هزائم وإسقاط عدة مدن يونانية، ودخلوا آتينا.
الأوروبيون يظهرون نواياهم الحقيقة، ويعبرون إلى نافارين
بعد أن أجهض جيش محمد علي التمرد اليوناني، أظهرت الدول الأوروبية نواياها الحقيقية. فأعلنت بسط حمايتها على بلاد اليونان. ولما رفض السلطان العثماني مقترح الحكم الذاتي لليونان في إطار الإمبراطورية العثمانية.
اتفقت القوات الأوروبية الثلاثة على إرسال أسطول بحري إلى سواحل اليونان. بعد أن رجع إبراهيم باشا إلى الإسكندرية، حيث استغل أسطول التحالف الأوروبي غياب إبراهيم باشا وأسطوله، وعبروا إلى نافارين جَنُوب غرب اليونان.
وما إن علم محمد علي بذلك، حتى أرسل أسطوله سريعًا إلى نافارين، وكان تحت قيادة الأميرال محرم بك. الذي قدم بأسطول مكون من ١٨ سفينة حربية مصرية و ١٦ سفينة حربية عثمانية، و٤ سفن تونسية.
ليجد الأسطول العثماني قادمًا من إسطنبول بقيادة الأميرال طاهر باشا، مكوناً من ٣٢ سفينة حربية أخرى. وقام إبراهيم باشا بقيادة الأسطولين في تلك المعركة. كما وجهت الجزائر غالبية قطعها الحربية لمساندة الأسطول العثماني ضد القِوَى البريطانية والفرنسية والروسية.
كيف استخدم الأوروبيون المكر والخديعة لهزيمة الدولة العثمانية
وتذكر بعض المصادر أن أسطول التحالف الأوروبي، بعد أن وصل إلى سواحل اليونان، طلب من إبراهيم باشا التوقف عن القتال. ليرد عليهم بأنه يتلقى الأوامر من خليفة المسلمين أو من أبي إهلا من غيرهما.
ومع ذلك، توقف القتال عشرين يومًا، ريثما تصل إليه التعليمات. ووقع الأسطول العثماني والأوروبي على اتفاقية هدنة.
لكن في العشرين من أكتوبر عام ١٨٢٧ للميلاد، نقد الأوروبيون الهدنة المبرمة بينهم والعثمانيين. ودخلت أساطيل التحالف الأوروبي إلى مرفأ نافارين دون أن ترفع أعلام الحرب. لذا، فقد كان دخولها دخول مكر وخديعة.
وقامت هذه الأساطيل بمباغتة الأسطول العثماني المصري الجزائري التونسي المشترك، وغدرت به، وأطلقت عليه النيران، وأغرقت السفن. لينهزم الأسطول الإسلامي المشترك هزيمة مروعة.
نتائج معركة نافارين
نجح المخطط الأوروبي الخبيث. فبعد أن شجعت فرنسا وإنجلترا السلطان على إرسال جيش للقضاء على التمرد في بلاد اليونان، وأغرت محمد علي بالتوجه إلى اليونان للقضاء على التمرد، أوقعت بالأسطول الإسلامي المشترك تلك الهزيمة النكراء. وكانت نتائج معركة نافارين فادحة بحق.
فقد تحطم الأسطول العثماني في تلك المعركة، ليكون ذلك بداية الانهيار البحري للإمبراطورية العثمانية. وأصبحت القوات العثمانية في موضع الضعف والانهزام، بعد أن كانت في موقع القوة والنصر.
كما تحطم الأسطول المصري الذي كان يثير مخاوف الأوروبيين في البحر المتوسط، وقد فقد الأسطول الجزائري معظم قطعه، ولم تنجو سوى سفينتين فقط.
لكن نتائج معركة نافارين لم تتوقف عند هذا الحد. حيث نجحت اليونان في تحقيق الاستقلال بعد خمس سنوات من معركة نافارين. حيث قامت فرنسا وإنجلترا بعقد مؤتمر تم الإقرار فيه بفصل بلاد اليونان عن الدولة العثمانية. وتقرر أن يتولى حاكم نَصْرَانِيّ حكمها، ويتم اختياره من قبل الدول الثلاثة.
كما فتحت معركة نفارين الباب أمام الهجمات المعادية. فبعد أن فقدت الجزائر غالبية قطعها الحربية، سقطت في يد الاحتلال الفرنسي بعد ثلاث سنوات فقط، وانتهى الوجود العثماني في شمال إفريقيا.