هاروت وماروت: ملائكة السحر وتأثيرهما في تاريخ بابل القديمة

نحن الآن في بابل القديمة، السحر ينتشر، ونفوذ السحرة يزداد، يتحكمون في الناس ويحولون حياتهم إلى جحيم إذا ما خالفوا أوامرهم. هنا نزل هاروت وماروت من السماء ليعلما الناس السحر. فمن هما؟ هل هما ملكان أم مذنبان؟ وما علاقة النبي سليمان بهما؟ لماذا علما الناس السحر؟

هاروت وماروت

قصة هاروت وماروت


الشياطين تتهم النبي سليمان باستخدام السحر لتحقيق ملكه والناس يتبعون كلام السحرة


كان النبي سليمان عليه السلام أحد أنبياء الله إلى بني إسرائيل، وقد حباه الله بثلاث معجزات.

فقد اختصه بالقدرة على فهم لغة الطير والحيوان، وسخر له الجن والشياطين، فأقدره عليهم وجعلهم تحت أمرته.

كما وهبه القدرة على تسخير الرياح التي كانت تجري بأمره وتحمله من مكان لآخر في وقت قياسي.

لكن بني إسرائيل لم يؤمنوا بأن كل ذلك معجزات من عند الله، وإنما اعتقدوا بأن سليمان بارع في السحر.

فنبذ اليهود كتاب الله واتجهوا إلى السحر والشعوذة، حيث كانت الشياطين تعينهم على السحر فيصعدون إلى الفضاء و يصلون إلى السحب والغمام ليسترقوا السمع.

ثم يضمون إلى ما سمعوا أكاذيب يلفقونها ويلقونها إلى كهنة اليهود وأحبارهم الذين يزعمون بأنهم يعلمون الغيب ويخبرون الناس بالمستقبل.

قام الكهنة بتدوين ما تتلوه الشياطين في كتب، حتى صاروا يقرؤونها ويعلمونها للناس. فلما علم سليمان بذلك، قام بجمع تلك الكتب ودفنها، حتى لا يصل إليها أحد.

ويقال أن الشياطين هي التي دفنت تلك الكتب تحت كرسي سليمان. وبعد وفاة سليمان، حدثت فتنة عظيمة بين الناس. فقد دلت الشياطين الناس على مكان كتب السحر.

فلما استخرج الناس تلك الكتب ووجدوا فيها السحر، اتهمت الشياطين سيدنا سليمان بأنه كان يستخدم السحر.

وصدق الناس ذلك، وظنوا أن هذا هو علم سليمان. وما تم لسليمان ملكه إلا بهذا العلم، وبه سخر الجن والإنس والطير والريح. وهذا من افتراءات اليهود على الأنبياء.

سرعان ما كثر السحرة الذين تتلمذوا على أيدي الشياطين، وادعوا النبوءة، وتحدوا الناس بالسحر. وفتن الناس بهؤلاء السحرة، حتى رفعوهم إلى مقام الأنبياء.

هنا كان لا بد من بيان حقيقة هؤلاء السحرة وإزالة اللبس الذي أحدثته الشياطين. فكانت هذه مهمة هاروت وماروت.

القصة الشائعة تتهم هاروت وماروت بارتكاب الموبقات


الواقع أن هناك اختلافا كبيرا بين المؤرخين حول حقيقة هاروت وماروت.

فتذكر بعض الروايات المتداولة أن الملائكة قالت لله عز وجل بعدما رأوا فساد بني آدم:

نحن أطوع لك يا رب من بني آدم.

فقال تعالى:

لو كنتم مكانهم لعملتم مثل أعمالهم.

قالوا:

سبحانك ما كان ينبغي لنا.

فقال لهم الله:

اختاروا ملكين من الملائكة حتى نهبطهما إلى الأرض فننظر كيف يعملان.

فوقع الاختيار على هاروت وماروت، فوضع الله فيهما من الشهوات ما وضع في بني آدم.

ونزلا إلى الأرض في مدينة بابل بعد أن أمرا بأن يعبدا الله ولا يشركان به شيئا.

ونُهيا عن قتل النفس الحرام وأكل المال الحرام والسرقة والزنا وشرب الخمر.

فلَبِثُوا على ذلك في الأرض زمانًا، يحكمان بين الناس بالحق، حتى التقوا بامرأة ذات حُسنٍ وجمال لم يستطيعا مقاومتها.

لكنها كانت من عبدة الأصنام، وكان اسمها الزُّهرة. فوقعت في قلبيهما، فسألها نفسها، إلا أنها رفضت إلا أن يكونا على دينها، فرفضا في بداية الأمر. لكن ظلت المرأة تجتاح أفكارهما.

ولما رأت المرأة أنهما يرفضان أن يعبدا الصنم، خيّرتهما بأن يشركا بالله أو يقتلا صبيا أو يشربا خمرا.

فرفضا الشرك بالله أو قتل الصبي، بينما وافقا على شرب الخمر باعتبارها أهون الثلاثة.

فلما شربا سكرا فزنيا بها وقتلا الصبي، أي أنهما اقترفا المعاصي كلها بسبب شرب الخمر.

ثم لما ذهب عنهما السكر، عرفا ما قد وقعا فيه من الخطيئة، وأراد أن يصعدا إلى السماء. فلم يستطيعا وكشف الغطاء فيما بينهما وبين أهل السماء.

فنظرت الملائكة إلى ما قد وقعا فيه من الذنوب وعرفوا أنه من كان في غيب فهو أقل خشية. فجعلوا بعد ذلك يستغفرون لمن في الأرض.

ثم خير الله هاروت وماروت بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة. فاختارا عذاب الدنيا، حيث يظلان معلقان في الأرض من أرجلهما إلى يوم القيامة.

وتضيف بعض الروايات أن هاروت وماروت علما تلك المرأة المسمات بالزهرة، الكلمة التي يصعدان بها إلى السماء. فصعدت، فمسخها الله. فهي هذا الكوكب المعروف بالزهرة.

غير أن مثل هذه القصص ينكرها الكثير من المؤرخين المسلمين. فهي مستمدة من الإسرائيليات ولم ترد في القرآن الكريم أو السنة النبوية. كما أنها تتضمن العديد من المخالفات لمبادئ الإسلام.

فكيف للملائكة أن ترد كلام الله؟ ثم إن الملائكة معصومون من الخطأ، دون ورود استثناء لهذا.

وقد وصفهم الله تعالى في كتابه العزيز بقوله:

لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون

ثم، كيف ترفع تلك المرأة إلى السماء وتصير كوكبا مضيئا؟

ما هي الحقيقة وراء هاروت وماروت


وعن قصة هاروت وماروت يقول تعالى:

وَٱتَّبَعُواْ مَا تَتۡلُواْ ٱلشَّيَٰطِينُ عَلَىٰ مُلۡكِ سُلَيۡمَٰنَۖ وَمَا كَفَرَ سُلَيۡمَٰنُ وَلَٰكِنَّ ٱلشَّيَٰطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسِّحۡرَ وَمَآ أُنزِلَ عَلَى ٱلۡمَلَكَيۡنِ بِبَابِلَ هَٰرُوتَ وَمَٰرُوتَۚ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنۡ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَآ إِنَّمَا نَحۡنُ فِتۡنَةٞ فَلَا تَكۡفُرۡۖ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنۡهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِۦ بَيۡنَ ٱلۡمَرۡءِ وَزَوۡجِهِۦۚ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِۦ مِنۡ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمۡ وَلَا يَنفَعُهُمۡۚ.

هكذا نجد أن القصة الأقرب إلى الصواب هي تلك التي رواها بعض المفسرين إستنادا إلى القرآن الكريم.

وهو أن الله قد أنزل إلى الأرض ملكين صالحين من ملائكته هما هاروت وماروت، وبعثهما إلى مدينة بابل بالعراق التي كان السحر موجودا فيها بالفعل.

فكانت مهمة هاتين الملكين هي تعليم الناس أبوابا من السحر، تعليم إنذار، لا تعليم تشجيع الله، حتى يعلموا الفرق بين السحر والمعجزة.

ويبين لهم كذب السحرة في دعواهم النبوءة. ولكي لا يلتبس على بعض الناس، وليكذبوا افتراءات اليهود على النبي سليمان.

ويخبروا الناس أن سليمان لم يكن ساحرا، وإنما كان نبيا مرسلا من ربه.

فيعرف الناس بسبب إرشادهما الفرق بين الحق الذي جاء به سليمان، وأتم له الله به ملكه، وبين الباطل الذي جاءت الكهنة به من السحر.

وقد احتاط الملكان عليهما السلام غاية الاحتياط، فما كان يُعلمان أحداً شيئاً من السحر إلا ويقولان له:

إنما نحن بلاء واختبار من الله لعباده، فمن تعلم منا السحر واعتقده وعمل به، كفر، ومن تعلم وتوقى عمله، ثبت على الإيمان.

وينبهان أن من يتعلم السحر ويرتكبه فهو ضرر عليه.

وكان أقصى ما يعلمانه هو كيف يفرق بين الرجل وزوجته، لكن لا يستطيعون أن يضروا بالسحر أحدا إلا بإذن الله تعالى.

لأن السحر من الأسباب التي لا تؤثر بنفسها، بل بأمره تعالى ومشيئته. ولكن الناس ما كانوا يأخذون بالنصيحة، بل كانوا يفرقون به بين المرء وزوجه، مرتكبين كل ما نهوا عنه.

تلك هي القصة الحقيقية للملكين هاروت وماروت. وأما ما ورد غير ذلك في شأن هذه القصة، فأغلبها منقول من الروايات الإسرائيلية.
المقالة التالية المقالة السابقة
لا توجد تعليقات
اضـف تعليق
comment url