معركة نيكوبوليس: دور السلطان بايزيد الأول وتأثيره التاريخي

ها هو ذا الصاعقة بايزيد يجتاح الأراضي الأوروبية، ويضيف المزيد والمزيد من الأراضي للدولة العثمانية. رعب هائل ذلك الذي انتشر في جميع أنحاء أوروبا مع توسعات الدولة العثمانية، لتنطلق أول حملة صليبية كاثوليكية لسحق الوجود العثماني في أوروبا، وتندلع معركة نيكوبوليس التي كانت علامة فارقة في التاريخ.

معركة نيكوبوليس

معركة نيكوبوليس


انتصارات العثمانيين الرائعة في أوروبا


من كان يتخيل أن تلك الإمارة الصغيرة في غرب الأناضول، التي منحها سلطان قونية علاء الدين كيقباد للقائد التركي أرطغل بن سليمان شاه، ستكون نواة لإمبراطورية بلغت مشارق الأرض ومغاربها، وستظل تلعب أحد أدوار البطولة الرئيسية على المسرح العالمي لأكثر من 5 قرون.

تلك هي الدولة العثمانية، التي وضع سلاطينها نصب أعينهم نيل شرف فتح القسطنطينية، عاصمة الدولة البيزنطية، والتوسع نحو أوروبا.

ومن ثم، التف العثمانيون حول أسوار القسطنطينية المنيعة، مسيطرين على أجزاء أوروبية محيطة بالقسطنطينية، حتى عزلت القسطنطينية تماماً عن باقي أوروبا المسيحية.

وأصبحت الدولة البيزنطية تحكم فقط العاصمة وبعض الأماكن الأخرى الصغيرة حولها.

ترددت العلاقة بين الدولة العثمانية في عهد السلطان بايزيد الأول المعروف بالصاعقة وبين الدولة البيزنطية بين الحرب والسلام، حتى انتهى الأمر بمعاهدة سلام بين الدولتين عام 1391 للميلاد.

كان من بنودها أن تدفع الدولة البيزنطية جزية كبيرة إلى العثمانيين وقبول تأسيس حي خاص بالمسلمين داخل القسطنطينية، إلى جانب تمركز قوة من الجيش العثماني تبلغ 6000 مقاتل شمال القرن الذهبي إلى الغرب من جالاتا شمال القسطنطيني.

وهذا يعني أن القسطنطينية صارت تابعة للدولة العثمانية، ولم يبقى الكثير من الوقت حتى تسقط المدينة التليدة وتتحقق نبوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

بعد أن استقرت الأمور بين الدولة العثمانية والدولة البيزنطية عبر الجيش العثماني نهر الدانوب لأول مرة في تاريخه، وتوغل العثمانيون في أراضي شرق أوروبا محققين انتصارات رائعة.

فأدخل بايزيد رومانيا الجنوبية إلى تبعية الدولة العثمانية عام 1391 للميلاد، وفي العام التالي فتح بايزيد شمال اليونان كله وتوغل حتى ضم سكوبيه في مقدونيا.

ثم أنهى بايزيد الملكية البلغارية بدخول مدينة تارنوڤو عام 1393 للميلاد.

في تلك الأثناء، توترت العلاقات بين الدولة العثمانية والدولة البيزنطية، الأمر الذي دفع بايزيد إلى حصار القسطنطينية عام 1395 للميلاد.

لكن التوسع العثماني لم يتوقف، فبسط العثمانيون سيطرتهم على مناطق واسعة جنوب الدانوب في العام نفسه، بل وسيطروا على نقاط التحرك من الجنوب إلى الشمال عبر النهر، وصار الوجود العثماني في هذه المناطق كثيفا.

وأمام التوسع العثماني، شعر سيجسموند ملك المجر بالخطر الشديد لإقتراب الغزوات العثمانية من قلب مملكته، ورأى أنه لابد من إيقاف العثمانيين بأي ثمن.

لكنه في الوقت نفسه كان يعلم أنه لا يستطيع القضاء على العثمانيين وحده. إذن، ما العمل؟

اتحاد الأوروبيين لمواجهة العثمانيين


بدأ سيغسموند في التحرك في اتجاهات ديبلوماسية كثيرة، تهدف إلى تجميع القوى لمواجهة السلطان بايزيد وسحق العثمانيين في أوروبا.

فأرسل إلى البابا في روما وإلى كافة ممالك وإمارات أوروبا، يدعو إلى شن حملة صليبية كبرى ضد العثمانيين.

فاستجاب البابا بونيفاس التاسع لدعوة ملك المجر، وبدأ في تجميع الجيوش الصليبية من غرب أوروبا.

وتوافد إلى المجر آلاف الفرسان والمقاتلين من فرنسا وإنجلترا وألمانيا واسكتلندا والنرويج وبولندا والبندقية، ومملكتي قشتالة وأراجون الإسبانيتين، وفرسان تيتون وفرسان القديس يوحنا في جزيرة مالطة، وكذلك من عدة جمهوريات إيطالية، أهمها جنوة ودولة البابا.

وقد بلغ عدد الجيوش الأوروبية، كما تذكر بعض المصادر، حوالي 130 ألف مقاتل في مواجهة 70 ألف جندي عثماني. فكيف ستكون المواجهة بين الجيشين يا ترى؟

بعد أن اكتملت العدة الصليبية، حدث خلاف شديد على استراتيجية القتال. فسيغسموند يُفضل الانتظار حتى تأتي القوات العثمانية، بينما يرون باقي القوات المبادرة بالهجوم.

وبالفعل، لم يستمعوا لرأي سيجسموند، وتحركت الجيوش الأوروبية في صيف عام 1396 للميلاد من بودا عاصمة المجر، متجهين نحو المناطق العثمانية في أوروبا.

وفي طريق الجيوش الغازية، كانت هناك بعض الدويلات الصغيرة في أراضي بلغاريا وغيرها من التي تدين بالولاء للدولة العثمانية وتحوي بعض الحاميات العثمانية الصغيرة.

فانقلب ولاء أكثر حكام تلك الدويلات، واستسلم غالبيتها للحملة القادمة، وفتكوا بالحاميات العثمانية المتناثرة في بلادهم.

كذلك، لم تسلم بعض القرى والمدن المستسلمة من بطش المهاجمين المتعصبين، والذين أمعنوا فيها سلبًا ونهبًا عقاباً لهم على خضوعهم سابقًا للمسلمين.

كما قتل الأوروبيون من وقع في أيديهم من الأسرى، واستمر الصليبيون في زحفهم حتى وصلوا إلى حصن نيكوبوليس القائم على نهر الدانوب شمال بلغاريا الحالية، وأحكموا الحصار حوله.

في ذلك الوقت، كان بايزيد منشغلاً بحصار القسطنطينية، فلما بلغته أخبار الحملة الصليبية رفع الحصار على الفور، واندفع بكل ما تحت يديه من قوات نحو الحصن المحاصر.

ظلت الحامية العثمانية تدافع عن الحصن المنيع طيلة أسابيع، ومن حسن الحظ فقد كانت قيادة القوات الأوروبية عشوائية ومتخبطة.

فبالرغم من أن القيادة كانت في يد سيغسموند، إلا أن كل جيش أراد أن تكون له كلمته، وهكذا اختلف القادة مرارًا.

وفجأة، ظهر الصاعقة قبل أن يتمكن الصليبيون من اقتحام الحصن، وأصيب الأوروبيون بالاضطراب بعد أن وجدوا أنفسهم بين فكي كماشة حامية نيكوبوليس العثمانية من خلفهم وجيش بايزيد من أمامهم.

وازداد الأمر سوءًا مع محاولات الصليبيين ترتيب خطة موحدة للمواجهة، ولم يستمع الفرسان الصليبيون لأكثر نصائح سيجسموند المتمرس في حرب العثمانيين وتكتيكاتهم.

كما كانت اللغات الكثيرة للفرق المشاركة في الحملة سبباً مهماً في عدم قدرة الأوروبيين على التواصل الجيد، في حين كان الجيش العثماني متماسكاً ومترابطاً، وكانت إدارته على أعلى درجة من درجات المهارة والكفاية.

متى كانت معركة نيكوبوليس؟


في 25 من سبتمبر عام 1396 للميلاد، اندلعت معركة نيكوبوليس بالقرب من أسوار نيكوبوليس، واندفع الفرسان الفرنسيون نحو الصفوف العثمانية محاولين زعزعتها بهجوم مكثف، الأمر الذي أسفر عن سقوط عدد كبير من القتلى في صفوف الجيش العثماني.

لكن ما لبث بايزيد أن نجح في السيطرة على معظم جيشه، وبدأ يناور بقواته للإيقاع بالمهاجمين، ثم ألقى باحتياطاته الكبيرة في أتون المعركة واستعاد التوازن سريعاً.

ومن ثم، تمكن الهجوم المضاد العثماني من عزل القوات الفرنسية المندفعة، بعد استغلال اندفاع فرسانها نحو الخطوط العثمانية وإيقاعها في كمين محكم.

تحت سفح تلال سيطر على مرتفعاتها الرماة العثمانيون، ووضعوا أسفلها العديد من العوائق لتبطئ اندفاع الفرسان.

ملأ الرماة العثمانيون الأرض والهواء حول الفرنسيين بسهامهم النافذة، فسقط الكثير من هؤلاء الفرسان وجيادهم بين قتيل وجريح.

ورغم ذلك، استمر المهاجمون في التوغل واحتلال التلال التي كان الرماة يرسلون رماحهم من فوقها. وظن الفرسان الصليبيون أن النصر سيكون حليفهم، فاندفعوا أكثر وأكثر.

هنا، قامت القوات العثمانية الرئيسية بالالتفاف خلف الفرسان الصليبيين لتنقلب الدفة لصالح العثمانيين.

حاول سيجسموند نجدة الفرسان المحاصرين، لكن بايزيد لمح الأمر سريعاً، فأمر بعض فرق جيشه الخفيفة بالالتفاف على قوات سيجسموند القادمة، وهكذا عزلت قوات سيجسموند بدورها.

وما هي إلا ساعات معدودة حتى لحقت الهزيمة بالجيش الصليبي.

نتائج معركة نيقوبولس


كانت نتائج معركة نيكوبوليس كارثية بحق بالنسبة للجيوش الأوروبية. فتذكر بعض المصادر أنه سقط من الجيش الصليبي 100 ألف قتيل، ولم يتمكن من الهرب إلا 20 ألفاً.

أما الأسرى، فقد أمر السلطان العثماني بقتلهم جميعاً انتقاماً من موقف سابق عندما قتلت القوات الأوروبية الأسرى المسلمين.

مثلت معركة نيكوبوليس علامة فارقة في التاريخ، فقد عززت من سمعة الجيش العثماني في أوروبا كقوة لا تقهر. ومن ثم، ترسخت الهيبة للدولة العثمانية في أوروبا بأكملها، وأدرك الأوروبيون أن استئصال الأتراك من أوروبا صار مستحيلاً بعد هذه المعركة.

ولم تقتصر آثار معركة نيكوبوليس على أوروبا وحدها، فبعد ذلك النصر المبين، أنعم الخليفة العباسي على بايزيد الأول بلقب سلطان، وهو لقب كبير لا يُعطى إلا للقائد الذي لا يتبع أحداً. وبذلك أعطى شرعية كبرى لبايزيد.

بعد معركة نيكوبوليس، صار الطريق ممهداً أمام بايزيد الأول لاقتحام مملكة المجر والنفاذ إلى وسط أوروبا، ومعاودة حصار مدينة القسطنطينية.

لكن طموحات بايزيد ما لبثت أن انهارت أمام الغزو المغولي لبلاده. استطاع تيمورلنك هزيمة بايزيد في موقعة أنقرة عام 1402 للهجرة، ووقع السلطان العثماني أسيراً.

لتنتهي حياته خلال فترة الأسر، وتتخبط الدولة العثمانية في حرب أهلية بين أبناء بايزيد، حتى تمكن العثمانيون من استعادة قوتهم التي سلبها المغول. واستطاعوا فتح القسطنطينية على يد السلطان محمد الفاتح عام 1453 للميلاد.
المقالة التالية المقالة السابقة
لا توجد تعليقات
اضـف تعليق
comment url