حضارة عيلام: ما تزال تخفي الكثير من الأسرار

حضارة عيلام، واحدة من أقدم الحضارات التي قامت في إيران، حضارة غامضة امتدت لآلاف السنين، احتلت خلالها منزلة رفيعة بين أمم الشرق، وأسست إمبراطورية خاصة. وكانت مشاركا رئيسيا في أحداث الشرق الأدنى، خاصةً أنها هي التي أسقطت حضارة أور، حتى كانت نهايتها على يد الفرس.

حضارة عيلام

حضارة عيلام المفقودة


نشأة حضارة عيلام


تعتبر حضارة عيلام من أولى الحضارات المسجلة في أقصى الغرب والجنوب الغربي لما يسمى الآن بإيران الحديثة، وتحديداً في الإقليم المعروف الآن بخوزستان.

كما أنها تضمنت أيضاً جزءاً من جنوب العراق الحديث، وقد استمرت حضارة عيلام لآلاف السنين، منذ العام 3200 وحتى عام 539 قبل الميلاد.

وعلى الرغم من تاريخها الطويل نسبياً، إلا أننا لا نعرف عنها سوى القليل، والسبب في ذلك أن لغتهم لغة معزولة، فلم يُعرف للغتهم أقرباء من لغات أخرى، ولم يتم فكّ شفرة لغتهم بعد.

نشأت حضارة عيلام شرق نهري دجلة والفرات، في مستجمع مياه نهر كارون، وكانت مزيجاً من الأراضي المنخفضة ومناطق المرتفعات المباشرة في الشمال والشرق.

بالإضافة إلى ذلك، توجد بعض المواقع التي تدل على تواجد الحضارة العيلامية خارج هذه المنطقة، منتشرة على الهضبة الإيرانية، مثل مدينة سيالك في مقاطعة أصفهان وجيروفت في مقاطعة كيرمان.

اختلف العلماء حول أصول العيلاميين، لكنهم رجحوا أنهم السكان الأصليون للهضبة الإيرانية.

وقد أطلق العراقيون القدماء اسم عيلام على سكان تلك المنطقة، ربما تحريفًا للتسمية التي أطلقها العيلاميون على أنفسهم وهي "هلتامي" أو "هلتامتي"، بمعنى سكان البلاد المرتفعة.

ولذلك، تترجم كلمة عيلام بمعنى الأرض المرتفعة أو البلاد المرتفعة. وقيل أيضاً أنهم من نسل عيلام بن سام بن نوح عليه السلام، ولذلك سميت حضارتهم باسم حضارة عيلام.

لم تكن عيلام يوماً دولة أو مملكة متماسكة تسكنها قومية واحدة، بل لطالما كانت عصبة من قبائل مختلفة تحكمها مدن مثل السوس وشيماشكي وأنشان، حتى تجمعت إبان العصر العيلامي الوسيط في فترة قصيرة في إمبراطورية واحدة.

الفترات التاريخية لحضارة عيلام


يقسم العلماء تاريخ حضارة عيلام إلى أربع فترات تاريخية، والفترة الأولى هي فترة عيلام البدائية، وهي الممتدة من حوالي عام 3400 قبل الميلاد وحتى عام 2700 قبل الميلاد.

وهي الفترة التي بدأت فيها السجلات المكتوبة حوالى ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد، حيث تم تأسيس مدينة سوزا في مجتمع مياه نهر كارون، ليكون ذلك بداية نشأة حضارة عيلام.

كما تميزت هذه الفترة بتطوير تكنولوجيات وآلات بسيطة، مثل أقراص الطين والمحراث والقوارب الشراعية، كما تم العثور على أدلة تدل على صناعة البرونز خلال هذه الحقبة.

أما الفترة الثانية، فهي فترة عيلام القديمة، والتي تمتد من عام 2700 قبل الميلاد حتى عام 1600 قبل الميلاد.

تعد هذه الفترة أكثر الفترات فوضاً وصعوبة من أجل إعادة بناء حضارة عيلام بشكل صحيح.

كما أعلنت عيلام استقلالها خلال هذه الحقبة، لكن سرعان ما غزتها حضارة الجوتي، وهي شعب ما قبل إيران.

الفترة الثالثة هي فترة عيلام الوسطى، منذ عام 1500 قبل الميلاد إلى عام 1100 قبل الميلاد. وهي الحقبة التي شهدت بدايتها صعود سلالات الأنشنايت في تاريخ عيلام.

كما ازدادت أهمية اللغة والثقافة العيلامية في المناطق التي تجاورها. كذلك فقد وقعت العديد من الحملات العسكرية في بابل، إلى جانب بناء معابد فاخرة في سوسا.

أما الفترة الأخيرة، فهي فترة عيلام الحديثة، الممتدة من عام 1100 قبل الميلاد حتى عام 539 قبل الميلاد. وتتسم تلك الحقبة بهجرة الإيرانيين الناطقين باللغة الهندية إلى المنطقة.

وفي تلك الفترة، استفاد العيلاميون من الفوضى الحاصلة بسبب تدهور الحضارة الآشورية المجاورة لهم، وحرروا أنفسهم من الحكم الآشوري في عام 616 قبل الميلاد.

بعد فترة وجيزة، سيطر الوسطاء على عيلام، وهم من الإمبراطورية الوسطى التي كانت في شمالي عيلام. وبذلك أصبحت مدمجة مع الإمبراطورية الوسيطة. حينها، كانت قوة ونفوذ عيلام قد انتهت.

اقتصاد حضارة عيلام


دعونا نلقي نظرة أكثر شمولية على حضارة عيلام، من خلال المعلومات القليلة التي توفرت لنا عن تلك الحضارة. فقد اعتمدت الثقافة العيلامية على التجارة والموارد.

فموقع عيلام الغني زراعياً، وفر لها احتياجاتها من الغذاء، بل وكان مصدراً ثابتاً جيداً للبيع إلى الدول الأخرى، مما ساعد في ازدهار النشاط التجاري.

وكان موقع تلك الحضارة على طول الخليج الفارسي، إلى جانب قربها من طرق الشحن الرئيسية عبر البر والبحر.

نتيجة لذلك، استفاد شعب عيلام من الثروات والأعمال الفنية والموارد للعديد من الثقافات الأخرى، الأمر الذي أدى لأن تكون الثقافة العيلامية واحدة من أغنى الثقافات العالمية.

وقد أسس العيلاميون إمبراطورية في عهد الملك شوتروك ناخكونتي الذي حكم في الفترة ما بين عام 1184 و 1155 قبل الميلاد.

وقد بدأ عهده بإنعاش مدنه وإعمارها، حتى يؤسس لقوة عيلام وعظمتها.

ثم انطلق في حملةٍ عسكريةٍ ضد العراق القديم ليحقق هذه الرؤية، وقد أسس شوتروك الإمبراطورية العيلامية برفقة أبنائه.

لكن إمبراطورية شوتروك لم تستمر أبعد من عهد ابنه الأصغر، بسبب الصراع الداخلي الذي نشب بين أفراد العائلة.

بنى العيلاميون إحدى أقدم المدن في العالم، وهي مدينة السوس التي يرجع تاريخها إلى نحو 4200 قبل الميلاد.

وكانت تلك المدينة مركزاً تجارياً هاماً، خاصة بعد أن جعلها الملك شوتروك ناخكونتي عاصمة دولته.

وقد عرفت المدينة بتطورها المدهش في صناعة الفخار والنسيج والزراعة والتعدين.

كما صارت إحدى عواصم الإمبراطورية الأخمينية وظلت مركزاً مهماً للتجارة والصناعة والفنون، حتى دمرها المغول عام 1218 للميلاد.

ديانة حضارة عيلام


وبالحديث عن ديانة شعب عيلام، فقد كانت الديانة العيلامية تعددية، وكأديان الحضارات القديمة الأخرى، ركزت الديانة العيلامية على المعبودات التي تمثل القوى الكونية والظواهر الطبيعية والاهتمامات المحلية.

كانت طقوس دفن الأموات تشبه الطقوس لدى الشعوب الأخرى، حيث يتم دفن الموتى في قبور، وأحياناً كان يدفن معهم تماثيل تصور الشخص المتوفى نائماً.

ومن بين الآثار الدينية التي تركها العيلاميون معبد دور أونتاش، الذي أسسه أونتاش نابيريشا الكبير، الذي بناه زقورة.

ومجمع معابد دور أونتاش، حيث يعتقد أن مجمع المعابد هذا كان صرحاً مخصصاً لمعبود السوس الراعي إنشوشيناك.

لكن بناء معبد أونتاش نابيريشا لم يكتمل بعد وفاة الملك، ثم هجر لأسباب لا نعرفها، ويبدو أنه لم يستعمل أبداً.

من بين الأمور التي ميزت حضارة عيلام أن أعمالهم الفنية لا تشبه أيًا من تلك التي تعود إلى الحضارات الأخرى في العالم.

فقد ركز العيلاميون على الحيوانات في فنهم، حيث نجد نقوش للحيوانات في السوس بدلاً من البشر.

وربما استعملت هذه الحيوانات بديلاً عن البشر لحكاية قصّة أو أسطورة. لكن بعد أن اتصلت عيلام بسومر اتصالاً وثيقاً، أخذ فنها يعكس هذه العلاقة الجديدة، ففقد أصالته رغم احتفاظه ببراعة صنعته.

العلاقة بين حضارة عيلام والحضارة السومرية


تأثر العيلاميون بجيرانهم السومريين، فبدأت العلاقات التجارية تأخذ مجراها بين القبائل العيلامية والقبائل السومرية.

ثم بدأت محاولات العيلاميين للسيطرة على جيرانهم بالقوة كلما سنحت لهم الفرصة.

وعندما ضعفت مملكة أور، ورأى العيلاميون في أنفسهم قوة كافية، فطمعوا في أرضها الخصبة الكثيرة الخيرات.

فهاجموها وبعد حروب جرت بين الأمتين، استولى العيلاميون على مملكة أور ودخلوا عاصمتها أور.

وأسروا ملكها أبي سين عام 1750 أو 2004 قبل الميلاد، وساقوه أسيرا إلى عاصمتهم شوشن، واستولوا على جميع مدن تلك المملكة.

بقي جنوب العراق في قبضة العيلاميين حتى قام سادس ملوك الدولة البابلية الأولى، الملك حمورابي، فهاجمهم بجنوده وطردهم من البلاد وملك العراق كله. وطارد العيلاميين حتى دخل عاصمتهم شوشن وأخضع تلك الأمة لسيادته.

بقي العراق زمناً طويلاً تحت حكم الدولة البابلية الأولى حتى سقطت تلك الدولة، فاضطربت شؤون العراق وانقسم إلى عدة ممالك ودول صغيرة.

الأمر الذي شجع العيلاميين على مهاجمة جيرانهم مجدداً، فشنوا الغارات على المدن العراقية في أزمان مختلفة ونهبوا بعض المدن وفتكوا بأهلها.

ثم شهدت عيلام فترة ضعف استغلها الآشوريين ليخضعوهم لسيادتهم، فظلوا تحت سيطرتهم قروناً حتى قامت الدولة البابلية الثانية فوحدت البلاد وعلى شأنها في عهد الملك بختنصر الثاني. حتى جاء كورش الفارسي فأنهى تلك الدولة تمامًا.

حافظ العيلاميون على ثقافتهم وتراثهم حتى بعد أن دمجت في الإمبراطوريات الفارسية.

كما تم تكييف ثقافتها لتناسب حاجات الفرس وقيمهم، واستمرت بالتطور حتى سقطت الإمبراطورية الساسانية الفارسية أمام العرب المسلمين.

وقد احترم الفاتحون المسلمون الثقافة العيلامية الفارسية، فشاعت في أرجاء الشرق الأدنى.
المقالة التالية المقالة السابقة
لا توجد تعليقات
اضـف تعليق
comment url