حضارة الأولمك رحلة عبر الزمن إلى حضارة مدهشة
حضارة الأولمك، أو حضارة المطاط، هي الحضارة الأم التي نشأت منها بقية حضارات أمريكا الجنوبية. ظهرت هذه الحضارة قبل 3500 عام في غواتيمالا والمكسيك، وتركت أثرها الواضح على بقية الحضارات الأمريكية التي تبعتها.
ورغم اختفائها الغامض منذ قرون طويلة، إلا أن آثارهم وأعمالهم الفنية بقيت شاهدة على تلك الحقبة الهامة التي وضعت أسس العديد من حضارات أمريكا الجنوبية.
حضارة المطاط أو كما تعرف بـ حضارة الأولمك
الغموض حول حضارة الأولمك
كانت حضارة الأولمك أول حضارة كبرى في المكسيك، حيث ازدهرت خلال الفترة التكوينية لثقافة أمريكا الوسطى، ما بين عام 1200 قبل الميلاد وعام 400 قبل الميلاد تقريباً.
رغم أهمية هذه الحضارة، إلا أننا نعرف عنها القليل جدًا، فقد عانت العديد من مواقع الأولمك من التدمير المنهجي والمتعمد لآثارها في فترة ما بين عامي 400 و 300 قبل الميلاد.
وبسبب نقص الأدلة الأثرية، فإننا لا نعرف أصولهم العرقية، وموقع ومدى العديد من مستوطناتهم، أو عاداتهم ومعتقداتهم، بل ولا نعرف حتى ما هو الاسم الذي أطلقوه على أنفسهم.
فكلمة 'أولمك' تُعتبر مصطلحًا من حضارة الأزتك، وتعني 'شعب المطاط'.
وقد تم اختيار هذا الاسم لأن شعب الأولمك استخرج مادة اللاتكس من أشجار المطاط في بنما التي تنمو في المنطقة، وخلطوه مع عصير الكرمة المحلي لصنع المطاط.
ربما كان شعب الأولمك أول من اكتشف كيفية تحويل مادة اللاتكس من شجر المطاط إلى شيء يمكن تشكيله ومعالجته وتقويته.
وقد تم الاستدلال على الكثير مما هو معروف عن حضارة الأولمك من الحفريات الأثرية في المناطق التي عاشوا فيها.
حياة شعب حضارة الأولمك
كان شعب الأولمك يعيشون في الأراضي المنخفضة الحارة والرطبة على طول ساحل خليج المكسيك، فيما يُعرف الآن بولايات فيراكروز وتاباسكو الجنوبية في جنوب المكسيك.
وقد اعتمدوا على الأراضي الساحلية الخصبة لزراعة المحاصيل مثل الذرة والفاصوليا والكوسة والبطاطا الحلوة والقطن، كما لجأوا إلى صيد الحيوانات وصيد السمك.
أخذت حضارة الأولمك بالازدهار من مدينة سان لورينزو، حيث سمح لها موقعها الاستراتيجي الآمن من الفيضانات بالسيطرة على التجارة المحلية.
كما ساعدت البيئة المحلية، ذات التربة الطمية المروية بشكل جيد، وشبكة النقل التي يوفرها حوض نهر كواتزاكوالكوس على نهوض الحضارة.
يمكن مقارنة هذه البيئة ببيئات حضارات قديمة أخرى مثل وادي النيل ووادي السند ووادي النهر الأصفر وبلاد الرافدين.
وقد شجعت هذه البيئة الخصبة على زيادة الكثافة السكانية، الأمر الذي أدى بدوره إلى ظهور طبقة نخبوية في المجتمع.
وزادت هذه الطبقة النخبوية الطلب على إنتاج المصنوعات الفاخرة والراقية التي ميزت ثقافة الأولمك.
وتكونت العديد من هذه المصنوعات الفاخرة من مواد مثل اليشم والزجاج البركاني وأكسيد الحديد الأسود، والتي جاءت من مواقع بعيدة، مما يشير إلى دخول نخبة الأولمك الأوائل في شبكة تجارية واسعة في أمريكا الوسطى.
أنشأ الأولمك شبكة تجارية واسعة تمتد إلى الشمال الغربي نحو وادي المكسيك، وإلى الجنوب الشرقي نحو أجزاء من أمريكا الوسطى.
وكان لدى التجار الكبار من الأولمك اتصالات مع ثقافات أخرى في أمريكا الوسطى ووادي المكسيك، حيث كانوا يتاجرون بالجلود والأقنعة والتماثيل، بينما كانوا يحصلون على السلع التي كانوا يحتاجونها مثل الملح والجاديت والسربنتين وجلود التماسيح وأصداف البحر وأسنان سمك القرش.
وبين عام 1100 وعام 800 قبل الميلاد، انتشر تأثير حضارة الأولمك الثقافي في الحضارات المعاصرة المختلفة، مما ساعد على ترسيخهم كثقافة رائدة لعدة حضارات لاحقة.
كما ساعدت التجارة الأولمك في بناء مركزهم الحضاري في سان لورينزو ولا فينتا، حيث استُخدمت هذه المدن في الغالب للأغراض الاحتفالية وأنشطة النخبة.
كان للأولمك دور رائد في العديد من المجالات، مثل إنتاج الشوكولاتة، كما يعتقد أنهم كانوا أول من ابتكروا لعبة الكرة التي كانت تُلعب باستخدام كرات مصنوعة من المطاط الصلب في ملاعب مخصصة لذلك.
ديانة حضارة الأولمك
كما هو الحال مع الكثير من ثقافة الأولمك، فإن المعلومات المتوفرة لدينا حول ديانة شعب الأولمك قليلة جدًا.
لكن المؤكد أن الأولمك كان لهم معبودات مرتبطة بالطبيعة، مثل معبود المطر ومعبود الأرض ومعبودة الذرة.
كما كان لديهم تقديس خاص للأماكن الطبيعية التي ترتبط بالسماء والأرض والعالم السفلي.
على سبيل المثال، كانوا يعتقدون أن الكهوف يمكن أن تؤدي إلى العالم السفلي، وأن الجبال يمكن أن تؤدي إلى الوصول إلى السماء.
وهناك اعتقاد أيضًا بأنهم ربما قدسوا حكامهم.
كانت لدى الأولمك العديد من الأساطير، مثل سائر الحضارات القديمة، منها تنين بحواجب مشتعلة وأنف منتفخ ولسان متشعب.
كما كانوا يعتقدون أن الأقزام الأربعة يحملون السماء، وربما يمثلون الاتجاهات الأربعة الأساسية التي أصبحت مهمة جدًا في ديانات أمريكا الوسطى اللاحقة إلى جانب معبودات الأولمك الأخرى.
كانت من بين الممارسات الدينية التي ارتبطت بالأولمك تقديم القرابين للمعبودات، وكانت بعض هذه القرابين قرابين بشرية.
وتشاع أيضًا القصص عن أنهم كانوا يأكلون لحوم البشر.
الفنون لدى حضارة الأولمك
كان الأولمك فنانين موهوبين للغاية، ولا تزال مهاراتهم وفنونهم محل إعجاب حتى اليوم.
وربما أهم ما بقي من حضارة الأولمك هو آثارهم وأعمالهم الفنية، وخاصة ما يُعرف بتماثيل الرؤوس الضخمة التي نُحتت من صخور بركانية تسمى البازلت.
تلك التماثيل التي تقف على ارتفاع عدة أقدام وتزن عدة أطنان، ويتراوح ارتفاعها من متر و 47 سنتيمتر إلى 3 أمتار و 4 سنتيمترات، تمتاز بوجوه مسطحة وشفاه ممتلئة، وغطاء رأس يشبه الخوذة.
ويُعتقد بأن هذه الصور تمثل حكام الأولمك.
تشمل القطع الأثرية الأخرى في حضارة الأولمك التماثيل ذات وجه الطفل، حيث تظهر هذه التماثيل على شكل وجوه مستديرة وملامح سميكة وعيون ثقيلة الجفن وأفواه مقلوبة، ويُشار إليها أحيانًا باسم "وير جاكوار".
كان للأولمك الفضل في بناء أقدم هرم معروف في الأمريكتين، والذي يقع في لافينتا في تاباسكو بالمكسيك، حيث يعود تاريخه ما بين عام 1000 إلى عام 400 قبل الميلاد.
نهاية حضارة الأولمك
ما بين عام 400 و300 قبل الميلاد، تراجعت حضارة الأولمك، حيث انخفض عدد سكانها بشكل حاد، دون أن يعرف العلماء السبب الحقيقي وراء ذلك.
يتكهن علماء الآثار بأن انخفاض عدد السكان كان نتيجة للتغيرات البيئية، وتحديداً بسبب تراكم الطمي في الأنهار، مما أدى إلى انقطاع إمدادات المياه وتلف المحاصيل.
وهناك نظرية أخرى تشير إلى أن الانخفاض الكبير في عدد السكان كان نتيجة إعادة توطين المستوطنات بسبب زيادة النشاط البركاني.
فقد غطت الانفجارات البركانية خلال الفترات التكوينية المبكرة والمتأخرة والنهائية الأراضي بالرماد، مما أجبر الأولمك على نقل مستوطناتهم.
وهناك من يرى بأن الأولمك ربما تعرضوا لهجوم من دولة أخرى.
ما هو السبب في اندثار حضارة الأولمك؟
لا أحد يعلم الشيء المؤكد، أن تلك الحضارة قد انتهت لسببٍ ما، لكنها وضعت العديد من الأسس لحضارات أمريكا الجنوبية التي تبعتها في المكسيك وأمريكا الوسطى، لاسيما حضارة المايا والأزتك.
فنقلت ممارسات الأولمك الدينية في التضحية والقرابين والمجمعات المقدسة الضخمة، وطقوس الكهوف والعروض، وملاعب الكرة، والأهرامات، والمنحوتات الحجرية، إلى جميع الحضارات اللاحقة في أمريكا الوسطى، حتى الغزو الإسباني في القرن السادس عشر الميلادي.